سورة الأنفال - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} بإظهار السلم وإبطالِ الحراب {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} أي فاعلم بأن محسبك الله من شرورهم وناصرُك عليهم {هُوَ الذى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} تعليلٌ لكفايته تعالى إياه عليه الصلاة والسلام بطريق الاستئنافِ، فإن تأييدَه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام فيما سلف على ما ذكر من الوجه البعيدِ من الوقوع من دلائل تأييدِه تعالى فيما سيأتي أي هو الذي أيدك بإمداد مِنْ عنده بلا واسطة كقوله تعالى: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} أو بالملائكة مع خَرقه للعادات {وبالمؤمنين} من المهاجرين والأنصار {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} مع ما كان بينهم قبل ذلك من العصبية والضغينة والتهالُك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة، وهذا من أبهر معجزاتِه عليه الصلاة والسلام {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارض جَمِيعاً} أي لتأليف ما بينهم {مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} استئنافٌ مقررٌ لما قبله ومبين لعزة المطلبِ وصعوبةِ المأخذ أي تناهي التعادي فيما بينهم إلى حد لو أنفقٌ منفقٌ في إصلاح ذاتِ البين جميعَ ما في الأرض من الأموال والذخائر لم يقدِرْ على التأليف والإصلاحِ، وذكرُ القلوب للإشعار بأن التأليفَ بينها لا يتسنى وإن أمكن التأليفُ ظاهراً {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} قلباً وقالَباً بقدرته الباهرة {إِنَّهُ عَزِيزٌ} كاملُ القدرةِ والغلبة لا يستعصي عليه شيءٌ مما يريده {حَكِيمٌ} يعلم كيفيةَ تسخيرِ ما يريده وقيل: الآيةُ في الأوس والخزرج كان بينهم إِحَنٌ لا أمدَ لها ووقائعُ أفنت ساداتِهم وأعاظِمَهم ودقت أعناقَهم وجماجمَهم فأنسى الله عز وجل جميع ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافَوا وأصبحوا يرمون عن قوس واحدة وصاروا أنصاراً.
{ياأيها النبى} شروعٌ في بيان كفايتِه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام في مادة خاصةٍ وتصديرُ الجملة بحرفي النداءِ والتنبيهِ للتنبيه على مزيد الاعتناءِ بمضمونها، وإيرادهُ عليه الصلاة والسلام بعنوان النبوة للإشعار بعليتها للحكم {حَسْبَكَ الله} أي كافيك في جميع أمورِك أو فيما بينك وبين الكفرة من الحِراب {وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} في محل النصبِ على أنه مفعولٌ معه أي كفاك وكفي أتباعَك الله ناصراً كما في قول من قال:
فحسبُك والضحّاكَ عضْبٌ مهندُ ***
وقيل: في موضع الجر عطفاً على الضمير كما هو رأيُ الكوفيين أي كافيك وكافيهم أو في محل الرفعِ عطفاً على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنين والآيةُ نزلت في البيداء في غزوة بدرٍ قبل القتالِ. وقيل: أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً وستُّ نسوةٍ ثم أسلم عمرُ رضى الله عنه فنزلت ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه.


{ياأيها النبى} بعد ما بين كفايتَه إياهم بالنصر والإمدادِ أُمر عليه الصلاة والسلام بترتيب مبادي نصرِه وإمدادِه وتكريرُ الخطاب على الوجه على المذكور لإظهار كمالِ الاعتناءِ بشأن المأمور به {حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال} أي بالِغْ في حثّهم عليه وترغيبِهم فيه بكل ما أمكن من الأمور المرغّبة التي أعظمُها تذكيرُ وعدِه تعالى بالنصر وحُكمُه بكفايته تعالى أو بكفايتهم وأصلُ التحريضِ الحَرَضُ وهو أن ينهكه المرضُ حتى يُشفيَ على الموت وقال الراغب: كأنه في الأصل إزالةُ الحَرَض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به قلت: فالأوجهُ حينئذ أن يُجعل الحرَضُ عبارةً عن ضعف القلب الذي هو من باب نَهْكِ المرض، وقيل: معنى تحريضِهم تسميتُهم حرضاً بأن يقال: إني أراك في هذا الأمر حَرَضاً أي محرّضاً فيه لتهييجه إلى الأقدام وقرئ {حرِّص} بالصاد المهملة وهو واضح.
{إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} وعدٌ كريمٌ منه تعالى بتغليب كلِّ جماعةٍ من المؤمنين على عشرة أمثالِهم بطريق الاستئنافِ بعد الأمر بتحريضهم، وقوله تعالى: {وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا} مع انفهام مضمونِه مما قبله لكون كل منهما عدةً بتأييد الواحدِ على العشرة لزيادة التقريرِ المفيدةِ لزيادة الاطمئنان على أنه قد يجري بين الجمعين القليلين ما لا يجري بين الجمعين الكثيرين مع أن التفاوتَ فيما بين كلَ من الجمعين القليلين والكثيرين على نسبة واحدة فبيّن أن ذلك لا يتفاوت في الصورتين وقوله تعالى: {مّنَ الذين كَفَرُواْ} بيانٌ للألف وهذا القيدُ معتبرٌ في المِائتين أيضاً وقد تُرك ذكرُه تعويلاً على ذكره هاهنا كما ترك قيدُ الصبر هاهنا مع كونه معتبراً حتماً ثقةً بذكره هناك {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} متعلق بيغلبوا أي بسبب أنهم قومُ جَهلةٌ بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون احتساباً وامتثالاً بأمر الله تعالى وإعلاءً لكلمته وابتغاءً لرضوانه كما يفعله المؤمنون وإنما يقاتلون للحمية الجاهليةِ واتّباعِ خطواتِ الشيطانِ وإثارةِ ثائرةِ البغي والعُدوانِ فلا يستحقون إلا القهرَ والخِذلانَ، وأما ما قيل من أن مَنْ لا يؤمن بالله واليوم الآخِر لا يؤمن بالميعاد فالسعادةُ عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية فيشِحّ بها ولا يعرِّضها للزوال بمزاولة الحروبِ واقتحامِ مواردِ الخطوب فيميل إلى ما فيه السلامةُ فيفِر فيُغلب، وأما من اعتقد أن لا سعادةَ في هذه الحياة الفانية وإنما السعادةُ هي الحياةُ الباقيةُ فلا يبالي بهذه الحياةِ الدنيا ولا يقيم لها وزناً فيُقدم على الجهاد بقلب قوي وعزمٍ صحيحٍ فيقوم الواحدُ من مثله مقامُ الكثير فكلامٌ حقٌّ لكنه لا يلائم المقام.


{الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} لمّا كان الوعدُ السابقُ متضمناً ألا يجابَ مقاومةُ الواحد للعشرة وثباتُه لهم كما نقل عن ابن جريج أنه كان عليهم أن لا يفِرّوا ويثبُتَ الواحدُ للعشرة وقد بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حمزةَ في ثلاثين راكباً فلقي أبو جهل في ثلمثمائة راكبٍ فهزمهم ثقُل عليهم ذلك وضجّوا منه بعد مدة فنُسخ وخُفف عنهم بمقاومة الواحدِ للاثنين وقيل: قلةٌ في الابتداء ثم لما كثُروا نزل التخفيفُ والمرادُ بالضعف ضعفُ البدنِ وقيل: ضعفُ البصيرةِ وكانوا متفاوتين في الاهتداء إلى القتال لا الضعفِ في الدين كما قيل، وقرئ {ضُعفاً} بضم الضاد وهي لغةٌ فيه كالفَقر والفُقر والمَكْث والمُكث وقيل: الضعفُ بالفتح ما في الرأي والعقل، وبالضم ما في البدن وقرئ {ضُعفاءَ} جمعُ ضعيف والمرادُ بعلمه تعالى بضعفهم علمه تعالى به من حيث هو متحققٌ بالفعل لا علمُه تعالى به مطلقاً كيف لا وهو ثابتٌ في الأزل، وقوله تعالى: {فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} تفسيرٌ للتخفيف وبيانٌ لكيفيته وقرئ {تكن} هاهنا وفيما سبق بالتاء الفوقانية {وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله} أي بتيسيره وتسهيلِه وهذا القيدُ معتبرٌ فيما سبق من غلبة المائةِ المائتين والألفِ وغلبة العشرين المائتين كما أن قيد الصبرِ معتبرٌ هاهنا وإنما تُرك ذكرُه ثقةً بما مر وبقوله تعالى {والله مَعَ الصابرين} فإنه اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لمضمون ما قبله والمرادُ بالمعية معيَّةُ نصرِه وتأييدِه، ولم يُتعرَّض هاهنا لحال الكفرةِ من الخذلان كما لم يتعرض هناك لحال المؤمنين مع أن مدارَ الغلبة في الصورتين مجموعُ الأمرين أعني نصرَ المؤمنين وخذلانَ الكفرةِ اكتفاءً بما ذُكر في كل مقامٍ عما ترك في المقام الآخر وما تشعرُ به كلمةُ مع من متبوعية مدخولِها لأصالتهم من حيث إنهم المباشرون للصبر كما مر مراراً.
{مَا كَانَ لِنَبِىٍّ} وقرئ {للنبي} على العهد والأولُ أبلغُ لما فيه من بيان أن ما يذكر سنةٌ مطردة فيما بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي ما صح وما استقام لنبيَ من الأنبياء عليهم السلام {أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} وقرئ بتأنيث الفعلِ و{أُسارى} أيضاً {حتى يُثْخِنَ فِي الارض} أي يُكثر القتلَ ويبالغَ فيه حتى يذِل الكفرُ ويقِلُ حزبُه ويعِزّ الإسلامُ ويستوليَ أهلُه، من أثخنه المرَضُ والجُرحُ إذا أثقله وجعله بحيث لا حَراك به ولا براحَ، وأصلُه الثخانةُ التي هي الغِلَظ والكثافة وقرئ بالتشديد للمبالغة {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} استئنافٌ مَسوقٌ للعتاب أي تريدون حُطامَها يأخذكم الفداءَ وقرئ {يريدون} بالياء {والله يُرِيدُ الاخرة} أي يريد لكم ثوابَ الآخرة الذي لا مقدار عنده للدنيا وما فيها أو يريد سببَ نيلِ الآخرة من إعزاز دينِه وقمعِ أعدائِه وقرئ بجر الآخرةِ على إضمار المضاف كما في قوله:
أكلَّ امرىء تحسبين أمرا *** ونارٍ تَوقَّدُ بالليل ناراً
{والله عَزِيزٌ} يغلّب أولياءَه على أعدائه {حَكِيمٌ} يعلم ما يليق بكل حال ويخصصه بها كما أمر بالإثخان ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوْكةُ للمشركين وخيّر بينه وبين المنِّ بقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} لما تحولت الحال وصارت الغلبةُ للمؤمنين. روي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتيَ بسبعين أسيراً فيهم العباسُ وعقيل بنُ أبي طالب فاستشار فيهم فقال أبو بكر: قومُك وأهلك استَبْقِهم لعل الله يتوب عليهم وخُذ منهم فديةً تقوِّي أصحابَك، وقال عمر: اضرِبْ فلنضرِبْ أعناقَهم فإنهم أئمةُ الكفر والله أغناك من الفداء، مكّنْ علياً من عقيلٍ وحمزةَ من العباس، ومكني من فلان نسيبٍ له فلنضرِب أعناقَهم، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله ليُلين قلوبَ رجالٍ حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوبَ رجالٍ حتى تكون أشدَّ من الحجارة وإن مثلَك يا أبا بكر مثلُ إبراهيم قال: فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلُك يا عمرُ مثل نوحٍ قال: {ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراًَ} فخيّر أصحابَه فأخذوا الفداء فنزلت فدخل عمرُ رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال: يا رسولَ الله أخبرني فإني إن وجدت بكاءً بكَيْتُ وإلا تباكيتُ فقال: أبكي على أصحابك في أخذهم الفداءَ ولقد عُرِضَ على عذابُهم أدنى هذه الشجرةِ لشجرة قريبةِ منه» وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لو نزل عذابٌ من السماء لما نجا غيرُ عمرَ وسعدُ بنُ معاذ» وكان هو أيضاً ممن أشار بالإثخان.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12